شهداؤنا الأبطال: الشهيد المغامر طلحة الخدوم

أبويحيى البلوشي   إن الله تعالى قطع على نفسه وعدا لينصر دينه، ويعلي كلمته لتكون هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى إلى آخر أيام هذه الدنيا، فيجتبي لهذه المهمة من يشاء من الناس؛ صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيَهم وفقيرهم، أميهم ومثقفهم، فهو تعالى يعز دينه بعزّ عزيز أو ذل ذليل، ولا يترك بيت وبر ولا […]

أبويحيى البلوشي

 

إن الله تعالى قطع على نفسه وعدا لينصر دينه، ويعلي كلمته لتكون هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى إلى آخر أيام هذه الدنيا، فيجتبي لهذه المهمة من يشاء من الناس؛ صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيَهم وفقيرهم، أميهم ومثقفهم، فهو تعالى يعز دينه بعزّ عزيز أو ذل ذليل، ولا يترك بيت وبر ولا مدر إلا يدخله فيه، وهو غني عن العالمين تمامًا، فلو تخلى جيل عن نصرة دينه، لقيض جيلا آخر يكون أعزّ منه وأقوى؛ يفدي دينه بالروح والغالي والنفيس، كما يقول عزوجل: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولاتضروه شيئا).

فالله غني عنا وعن جهادنا وعن عباداتنا، بل نحن فقراء إلى الله تعالى، لأننا لو عملنا صالحاً فلأنفسنا، يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه).

في هذا العصر المهيب، إذ ترك أهل القوة الجهاد، وركنوا إلى الدنيا الدنيئة وخابوا وخسروا بها، أعز الله دينه بجنود من طراز آخر؛ طراز اليافعين (براعم) الضعفاء، يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص.

شباب في سنين الورود بل لم يبلغوها وهم براعم لم تتفتح بعد! وهذا من عجائب الهيام إلى الجهاد والشهادة، والغيرة على الدين، والأنفة للعرض والأرض، فيترك أحدهم دفئ البيت ولمة الأهل ويطير إلى ساحات القتال يطلب الموت مظانّه، ولسان حاله يقول: وعجلت إليك رب لترضى، يريد رضى ربه تعالى ويخاف من سخطه، فيواجه في هذا الطريق مصائب مما لا يتحملها الصناديد، فيتحملها احتسابا وإيمانا.

وإنما يدرك هذه الحقائق من عاش في ميدان القتال وخاصة في أرض خاشرود المخضبة بالدماء، فكم ربّى تراب هذه الأرض المباركة براعمَ ضحوا بأنفسهم لدين الله، وما الشهيد اليافع “عامر” دانشجو وأمثالهم من براعم هذه الأمة المكلومة عنا ببعيد. ربت هذه الأرض مقاتلين مخاطرين من الشباب واليافعين من أمثال معاذ ومعوذ الذان قاتلا أبا جهل فقتلاه، وهم أبناء في عنفوان يفوعتهم.

والشهيد طلحة الذي نحن بصدد كتابة لمحة عن حياته الجهادية كان برعما من البراعم، وزهرة اتخذ طريق العز والشجاعة دربا، وبقي على الطريق حتى لقي الله متمزقة أشلاؤه شذر مذر ليكون جسمه خير شاهد على صدقه مع ربه يوم القيامة.

أبصر النور شهيدنا المغوار بمقبرة الغزاة بمديرية تشخانسور في محافظة نيمروز، ارتضع لبان الشجاعة والغيرة من أم كريمة، ونشأ على دين الله في أحضان أب رؤوف، يرى أترابه في حل وترحال في الكتّاب والمدارس الدينية، ولكنه كان آسفا على عدم التحاقه بالمدارس في صغره.

‏عاش شهيدنا المغوار في طفولته المبكرة فقيرا، بعيدا عن المدارس؛ لحوائج بيته، وهو يزرع الأراضي جنبا إلى جنب مع والده، وكان مساعدا له وسنده يشاوره في أمور دنياه.

‏مضت عليه سنوات إذ نخر فيه شوق الدرس والعلم فانخرط في سلك التعلم، وبدأ يدرس في المدارس المختلفة بنيمروز، وفي السنة الثانية من جهاده وبعد هذه السنة بسنة واحدة رحل الشهيد إلى هرات طلبا للعلم ليتربى بعيدا عن أهل بيته ويستعد أكثر للجهاد.

من المعلوم أن المدارس صروح عز الأمة الإسلامية ومجدها، فيها يتربى قادات الأمة الإسلامية، ومنها يخرج جنود الله نحو ميادين العز والقتال وإليها يرجع الفضل في إلهاب فتيل الجهاد وزرع حبه في قلوب الطلاب.

فكانت بداية طريق هذا الشاب من المدرسة، إذ التهب قلبه ألماً من نكبات المسلمين، ولم ير طريقا ولاملجأ من هذه الأزمات إلا الجهاد. فبدعوة من طالب علم له وإرشاد منه، بدأ أحمد (طلحة) حياته الجهادية وجاء ليكون أسوة حقيقية للشباب واليافعين وليكون خير نموذج لأترابه.

دخل في ساحات خاشرود وهو ابن ست عشرة سنة تقريبا وأتم التدريبات العسكرية هناك في السنة الآتية، وبعد أيام من تلقيه التدريبات العسكرية رجع الشهيد إلى بيته، يفكر أكثر في أحوال شعبه ووطنه.

مضى عليه ثلاث عطلات في الجهاد وفي المرة الثالثة الأخيرة، رجع الشهيد من الدراسة من هرات متوجهاً إلى ساحة القتال ولم يذهب إلى البيت، أتى الساحة لئلا يرجع، أتى ليرحل إلى ربه ويصل إلى مناه.

سبحان الله كأنه ألهم أنه لن يرجع إلى بيته، إذ أتى إلى ساحة القتال في هذه المرة وهو ليس طلحة الذي جاء إلى هذا الميدان قبل سنة، فبدأ يخدم أكثر حتى تعجب أحد رفاق دربه من خدماته وسأله: طلحة! أأنت الذي تخدم هكذا؟ وهكذا يوفق ربنا تعالى كل من يجتبيه إلى لقائه للخدمة.

كان الشهيد رحمه الله فكِهًا كثير المداعبة، يداعب إخوانه في أكثر الأحيان، ولكن من صفاته المتميزة سلامة الصدر عن المجاهدين، فكان الشهيد لو أحس بقليل من الحزن والقلق في صديقه لمداعبته، كان يذهب عنده ويعتذر‌. ومن العجيب أنه تقبله الله قبل نصف ساعة من استشهاده اعتذر من صديقه بإرسال صوته في الواتساب ليعفو عنه ويسامحه، كأنه ألهم إليه أنه سيستشهد.

يقول أحد رفاق دربه: أنا أعرف الشهيد منذ سنوات، كان أبيا شجاعا غيورا يساعد أباه في حوائج بيته، وآخر شهر مضى عليه في ساحة القتال كنت معه، والله لقد تغير أحمد وهو ليس كما كان عليه من قبل، كان يخدم كثيرا جدا مع أنه ماكان يخدم من قبل، وتغيرت أحواله قبل استشهاده، فكان يعبد الله أكثر من ذي قبل ويلتجئ إليه أكثر، وصار في الحقيقة فارس النهار وراهب الليل.

وفي يوم من الأيام إذ استعد الإخوة لعملية، اشتكى أحمد لأمير المنطقة من عدم ذهابهم به للعمليات، فيقول الأمير لا تحزن ها أنا كتبت اسمك معهم. فذهب الإخوة للعملية وقبل بدايتها، استمع الإخوة لصوت الطائرة دون الطيار فأمرهم الأمير بالرجوع إلى الغرف.

رجع طلحة إلى الغرفة حزينا من عدم اشتعال الحرب وعدم بدء العملية، ثم ترك الغرفة متجها لغرفة صغيرة غير بعيدة عن إخوانه، وقعد هناك بالمرصاد مع صديقه للعدو.

فما مضت عليهم ساعة إلا وقصفت طائرات العدو غرفتهم الصغيرة.

يواصل صديقه ويقول: تيقنت أنهما استشهدا فما نبست بكلمة حول هذه الحادثة، وفي الصباح الباكر بعد أن مضت علينا ليلة ظلماء خرجنا من غرفتنا وواجهنا مشهد مفجع، إذ تدمرت الغرفة تماما وتمزق جسد الشهيدين البطلين أحمد ورفيق دربه، فقمنا بجمع لحومهما المتمزقة فلم يبق من لحومهما إلا قليل.

سبحان الله هكذا تتمرق أشلاء الشباب اليافعين ليكونوا نموذجا للتضحية والتفاني في سبيل الحرية للشعوب المسلمة التي احترقت تحت نير ظلم الطغاة والمحتلين، وليعلم العالم أن الله ينصر دينه ولو بالبراعم والصغار.

استشهد بطلنا المغوار في منتصف شهر رمضان مع صديقه ودفنا في قبر واحد.

تقبلهم الله وجعلهم نبراسا لهذا الدرب الكريم.